منذ اربع سنوات امتدت يد الارهاب والظلامية لتطال الكاتب والمناضل الأردني الكبير ناهض حتر، وهو على مدخل قصر العدل في قلب العاصمة الأردنية.
أن تستذكر يوم اغتيال الشهيد حتر يعني أنك حتماً تستذكر تلك الحقبة السوداء، والتي لم تنته بعد، من عصر داعش الممتد عبر التاريخ، وما أدراك ما هي داعش.
يطول الحديث عن ذاك الرجل الخمسيني المليء بالحيوية والنشاط والبحث، وإذ يصعب تلخيص أفكاره في مقالة وعلى عجل، لكن يستحق منّا بجدارة أن نعيد البحث وقراءة ما قدّم من أفكار وأبحاث في سبيل هذه الأرض والأمة.
هو عملياً من أبرز من جدّد في فكر الكبير أنطون سعادة ومشروع الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومن أهم مرتكزاته قيام كيان موحد على مساحة “سوريا الطبيعية”. كان هاجسه إعادة الاعتبار لهذه البلاد من براثن التخلف والاستعمار، وعلاج مسألة التحرّر والعلمنة والتحرير الشامل، من سفوح طوروس إلى حفافي صحراء النقب. هو المشروع القومي الكبير، الذي يبقى حلماً بوحدة لم تتحقق بعد وباستقلال ناجز لم تره هذه البلاد منذ قرون.
هنا كان ناهض حتر من أفضل من قدّم طروحات مجدّدة ما بعد أنطون سعادة في سبيل أن يحظَ المشروع القومي بنهضة فكرية حقيقية، وإن كان المشروع السياسي قد تعثر كثيراً على أرض الواقع، لكن حتر قدّم كمًّا من المشاريع والأفكار والتحليلات التي ساهمت وتساهم في إعادة قراءة المشروع القومي بواقعية وبلغة القرن الحادي والعشرين، وهو قد صاغها تحت عناوين “المشرقية”.
عمل حتر على أكثر من خط فكري، إذ قدّم المشروع القومي من خلال عناوين الوحدة الكبرى مع التركيز على فكرة العدالة الاجتماعية المترافقة مع التحرّر السياسي المباشر وبالتالي التحرّر الاقتصادي ومواجهة مشاريع التقسيم والتفتيت والعصبيات القبلية والعشائرية والمذهبية وغيرها. ورغم هذه المعركة الفكرية الكبرى التي يخوضها يومياً في محيطه لم يتوقف الباحث الاجتماعي عن العمل، ليقدم أبحاثاً واستنتاجاتٍ رائعةً في مجال علم الاجتماع والتأكيد على الترابط العضوي بين مكوّنات بلاد الشام والعراق، من التكوين العشائري والقبلي والديني والاجتماعي والعادات والتقاليد إلى أنواع الطعام.
ناهض حتر الثائر على مجتمع جامد ومتكلس، لم يتورّع عن تحدّي هيمنة العشائر والمذاهب ورجال الدين والعادات البالية وطرح مشروع الدولة الوطنية البديل، ثم ينكب على إنتاج الأبحاث العميقة عن المجتمع الأردني ومجتمعات بلاد الشام، من مكوناتها البشرية والفكرية والثقافية وصولاً إلى أبحاثه الجميلة في تاريخ المأكولات وعادات الطعام وتأثيرات المناخ والبيئة على أنواعه وتوزعاتها على المناطق، وكان للـ”المنسف الأردني” أو الطبق الرئيسي الشهير لسكان سهل حوران، حصّة الأسد في أبحاثه، وهو من قرأ في مكونات الطعام دلالات بيئية واقتصادية أساسية وللدلالة على وحدة المنطقة، وقد كانت الجغرافيا ملعبه وهاجسه دوماً.
ناهض حتر الفلاح الأردني والقومي والماركسي والأممي المقاوم دوماً وأبداً، استدرك مبكراً حجم الهجمة البربرية على بلادنا فرفع الصوت بعنف وقوّة للمواجهة المباشرة، وقد خاض معارك يومية حادة في محيطٍ معادٍ لحظة أشهرَ قلمه ولسانه إلى جانب الدولة السورية وجيشها في لحظةٍ مصيرية وخطيرة، وكتب الكثير الكثير عن مخاطر استهداف سوريا ودورها وموقعها.
وبسرعة يمكن تلخيص المخاطر الثلاث وهي مشاريع تتقاطع على استهداف واحتلال بلاد الشام ونهب خيراتها:
- أولاً المشروع الصهيوني القائم الآن على أرض فلسطين ومخاطر توسعه على كل الصعد.
- ثانياً خطر المشروع الطوراني من شمال البلاد والذي يطمح لإعادة احتلال كل بلاد الشام، واذا لم يكن ذلك فعلى الأقل قضم مساحات جغرافية منه بما يتوفر له من إمكانيات.
- ثالثاً الخطر الوهابي السعودي الصحراوي الزاحف نحو الحضارات المجاورة له، بعناوين وشعارات دينية لا تتورع عن تدمير حضارة هذه البلاد، ودعا بالمقابل إلى تفكيك تلك الممالك وقيام إدارة إسلامية مشتركة للمراكز الدينية في مكّة والمدينة على شاكلة إدارة الفاتيكان تديرها ثلّة من أصحاب العقول النيّرة والمنفتحة.
إذن عمل ناهض حتر بالفكر والكلمة على التنبيه من المخاطر المجتمعة على نهش جسد الأمة وإنهاكها وتفكيكها، وساهم فعلياً في تأسيس المنتديات والتجمعات السياسية والنضالية وحلقات الحوار اليومي من أجل التسريع في قيام نهضة ومواجهة المشاريع التدميرية القادمة.
ومن حيث لا يتوقع أي انسان، رُمي المفكر النهضوي بالاتهامات جزافاً، وألصقت به تهم الكفر والتجذيف وغيرها من اختراعات أجهزة المخابرات والرجعية، وهو من له إسهامات فكرية في نقد الإسلام السياسي، والفكر القومي والتجربة الماركسية العربية، وإسهامه الأساسي في دراسة التكوين الاجتماعي الأردني .
في هذه اللّحظات نستذكر الشهيد ناهض حتر منظراً للهوية الوطنية الأردنية وعراباً للحركة الوطنية، حيث قدم من خلال دراساته ومؤلفاته تحليلاً للبنية الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الأردني وإمتداداته في المحيط المشرقي.
دافع الشهيد حتر عن الأردن والمشرق في مواجهة المشروع الصهيوني الخطير، ووقف في وجه السياسات اللّيبرالية والكمبرادور الذي سعى إلى تحطيم مؤسسات الدولة والطبقة الوسطى. كما عمل على تجديد طروحات حركة التحرّر الوطني الاجتماعي، وإعادة اكتشاف مركزية الدولة الوطنية ومفاهيم التنمية والديمقراطية المضادة والثقافة المشرقية والمقاومة في مواجهة مشاريع الاستعمار وأدواته التكفيرية في المنطقة، وخصوصاً في سوريا.
في ذكراك الرابعة أيّها المثقف المنخرط تحية حارة لك … لتحيا بلادنا واسمك على جبين مجدها الدائم كما كنت تحبها في حياتك.
ونختم بما كنت تقول دائماً “ما دامت سوريا باقية…. فكل شيءٍ قابلٌ للتصحيح”.
عامر ملاعب